حياة كريمة
نسعى للحصول على حياة كريمة و ننشد الاستقرار، ولكن بسبب الفساد وسوء الإدارة، ها نحن نواجه سياسات التّجويع والتضييق المعاشيّ الممنهج المؤدّية إلى تفاقم الفقر وعدم المساواة. قد يتمثّل ذلك في سوء التّصرّف في ثروات الدولة لصالح فئة ضيّقة من الأفراد، ممّ يؤدّي إلى تراجع القدرة الشّرائيّة للغالبية العظمى من الشّعب.
الرّقيّ الفكريّ و الأدبيّ والاجتماعيّ للأفراد
حقّ الإنسان في الحصول على حاجاته الأساسية مثل الماء والغذاء و السّكن والرّعاية الصحيّة يُعَدُّ أمرا طبيعيّاً وأساسياً مفروغا منه، كبر الحلم وصرنا نبحث عن الرّفاهيّة و جودة الحياة . فيأتي علينا زمن تعيس يتسلّط فيه علينا بعض الرّهوط فينكّلون بالتّعليم وآخرون يعبثون بالرّياضة وآخرون بالثقافة وما تعنيه من رقيّ فكريّ وادبيّ واجتماعيّ للأفراد والجماعات.
هذا الرّقيّ الذي كنّا نأمل أن يأخذنا إلى حياةً اكثر رخاءً وسهولة ويسر. لم يكفهم تهميش التّعليم عبر حجب الأعداد و التّلاعب بالانتدابات و ها أنّ يد الفساد تطال الثّقافة فأسندت المهرجانات إلى أشخاص ليسوا في مستوى انتظارات هذا الشّعب.
حمّى المهرجانات الصّفيّة
البداية كانت مع مهرجان بنزرت حيث اندلعت مشادّة حادّة بين أحمد سعد وبين منظمة مهرجان بنزرت بعد إقامته حفل جماهيريّ ، دون حضور المؤتمر الصّحفيّ ما دفع المنظمة إلى ملاحقته ومطالبته بالالتزام ببنود العقد. وقد تمادى في الخطإ بقول "اسكتي" وهي تعتبر إهانة لسيّدة تونسية تدير مهرجانا ثقافيّا مشعّا.
و إنّي أرى الإساءة تتجاوز منظّمة الحفل لتمسّ جميع التّونسيين. ثمّ محفل الفاضل الجزيري بمهرجان قرطاج الذي يقتات على إنتاجات فنيّة منسوبة لغيره و ما يهمّني هنا هو الدّعم الماليّ السّخيّ الذي يجده من وزارة الثّقافة بالرّغم أنّ إنتاجه ليس شخصيّا بل إعادة تدوير.
فلا يستحقّ الدّعم حسب رأيي إلا إذا أنتج أعمالا تلبّي المواصفات التي تحدّدها أجهزة الوزارة في إطار الرّفق بمقدّرات الدّولة في هذا الظّرف الذي يشهد الجميع أنّه عصيب.
الفاضل الجزيري في حفل افتتاح مهرجان قرطاج الدّولي استأثر بكاشي 200 الف دينار وهو ما يعادل ميزانيّة مهرجان صفاقس الدّولي هذا المهرجان الذي نصف ميزانيّته سيذهب إلى صابر الرّباعي لإقامة حفل الاختتام. ونصف الميزانيّة الآخر سيغطّي بقيّة العروض و عددها 17. بمعنى أجرة فنّان واحد تعادل أجرة 17 عرضا...
مشاركة نور شيبة وصعوده على ركح قرطاج أثارت جدلا كبيرا وفيه تطبيع مع المخدّرات هذه الآفة التي تهدّد أركان المجتمع التّونسيّ. هل أصبحت المخدّرات أمرا عاديّا طبيعيّا نتعامل معه بمثل هذه البساطة ، واصبح هذا الفنّان ضحيّة وجب علينا رفع معنوياته و معامله كبطل قوميّ إن لزم الأمر. وفي هذا السّياق كشف الفاضل الجزيري ان نور شيبة هو من اتّصل به بعد خروجه من السّجن عارضا عليه التّواجد والمشاركة في عرض ” المحفل ” في حفل الافتتاح وهو لم يستطع ان يرفض له الطلب لأنه في حاجة لرفع المعنويات أي من باب المجاملة، في حين أنّ فنّانين آخرين أكفّاء تقدّموا بمطالب كان مآلها الرّفض و كان من الأولى منحهم فرصهم، بعيدا عن التّعاطف و المجاملة و المحابات.
مدير المهرجان كمال الفرجاني أكّد أنّ الجمهور في عرض " المحفل " كان حاضرا طيلة السّهرة ولم يغادر المسرح فاعتبر ذلك دليلا على نجاح العرض وهو نفس الذي حصل مع عرض "ليلة الضحك " في قرطاج الذي غطت مداخيل بيع التذاكر تكاليفه وفق تقديره.
يظهر أنّ مدير المهرجان أكثر اهتماما للموازنات الماليّة برغم أنّه مهرجان غير ربحيّ ويرى أنّه من غير المعقول أن يجد منظمو الدورة القادمة اختلالا في الميزانية. فكان أن استعمل الكوميديّ الفرنسي من أصول مغاربيّة " AZ " كلاما اعتبره البعض بذيئا في العرض الذي قدّمه على مسرح مهرجان قرطاج. هذه السّهرة أساءت إلى المهرجان أوّلا ثمّ أساءت إلى تونس. تبريرات وأسف مدير المهرجان واعتذار الكوميديّ لن تنسينا ما حدث برغم الاجراءات التي اتّخذتها لجنة التّنظيم قد امتنعت عن تسليم شهادات التّكريم لجميع الفنّانين المساهمين في ذلك العرض.
تدخّل الرّئيس وانتقاده سهرة الضّحك
أمام هذه الرّداءة التي شهدتها مهرجاناتنا إلى حدّ الآن جعلت رئيس الجمهوريّة يذكّر بالأهداف التي أنشئت من أجلها المهرجانات في تونس في السّنوات الستين من القرن الماضي فقال:
- مهرجان قرطاج ومهرجان الحمّامات والأيام السينمائية لقرطاج وغيرها كان الهدف منها نشر الثقافة والارتقاء بالمجتمع هذا فضلا عن نوادي السينما ودور الثقافة في كل أنحاء البلاد. ما حصل على مسرح قرطاج يوم الأحد فيه اعتداء لا على هذا المهرجان ذي التاريخ التّليد، بل يرتقي إلى مرتبة الجريمة التي يعاقب عليها القانون. فكيف يجازى من اعتدى علنا على الأخلاق الحميدة أو الآداب العامّة، كما ينصّ على ذلك الفصل 226 من المجلة الجزائية، بمقابل يناهز 26 ألف يورو للعرض في حين أنّه من المفروض أن يعاقب بالسّجن وبخطية مالية كما ينصّ على ذلك الفصل المذكور.
ولعلّ ما يحصل في تونس اليوم في جميع القطاعات ومنها الثّقافة جعل الرّئيس وهو الذي يمثّل أعلى سلطة في الدّولة يقول:- التّنكيل بالشّعب في قوته ومعاشه وفي حقّه الطّبيعيّ في الماء إلى جانب التّنكيل به في التّعليم والثّقافة ليس من قبيل الصّدفة، بل هو مدبّر له لضرب الوطن والدّولة.
حسن إدارة الدّعم الثّقافيّ
ما حدث في مهرجاناتنا إلى هذه السّاعة يشير إلى ضرب الثّقافة في تونس، أهل القرار الفاعلون يتحمّلون المسؤوليّة كاملة في العبث بمكاسبنا الثّقافيّة وساهموا في الانحدار الفكريّ وعليهم مراجعة سياسة الدّعم حتى يتساوى المبدعون أمام الجمهور فيقع تصنيفهم بقوّة الإبداع.
هذا الدّعم نريده أن يحقّق التنوّع الثقافيّ و أن يعزّز التّفاهم والتّعايش السّلمي بين أفراد المجتمع وأن يتيح لنا سبل الانفتاح على ثقافات اخرى لا تسيء إلى قيمنا ومثلنا مثلما حدث في " سهرة الضّحك" وهنا تتبادر إلى الأذهان بعض الخطوات والأفكار لتنظيم سياسات الدّعم الثقافي و منها:
- التشاور مع مكوّنات المجتمع الثقافي قبل وضع أيّ سياسة دعم ثقافيّ، يجب على القائمين التّشاور مع مكوّنات المجتمع ذات الصّلة لفهم الاحتياجات والطّموحات و اعتبار الآراء والمقترحات.
- حسن التّصرّف في التّمويل والموارد اعتماد العدل في دعم المشاريع الثّقافيّة و الفعاليات والمبادرات الثقافية المختلفة بما يخدم الأهداف و الانتظارات على أساس الكفاءة على على أساس المحسوليّة و المجاملةّ.
- تعزيز الثّقافة في التّعليم دمج الثّقافة في المناهج الدراسية وتوفير فرص النّشاط الثقافي خارج المؤسّسات التّعليميّة لتنفتح المدرسة على المؤسّسات الثّقافيّة .
- حماية التّراث الثقافيّ يجب العمل على حماية التراث الثقافيّ والتاريخيّ وتعزيزه بما يزيد في ترسيخ مفهوم الانتماء الوطني.
- تشجيع الابتكار والإبداع يمكن تحفيز الابتكار والإبداع من خلال دعم الفنانين والمبدعين المحليين وتوفير منصات لعرض أعمالهم الفنية والثّقافيّة مع ضرورة اعتبار المستوى التّعليميّ للفنّان لتنظيف القطاع.
- الانفتاح على الثّقافات المختلفة يمكن تحقيق التّفاعل الثقافيّ بين الثّقافات المختلفة من خلال تنظيم فعاليات متعدّدة الثّقافات والمهرجانات والمعارض الفنيّة بعيدا عن الرّبح الماديّ برغم التّقليص في حجم ميزانيّة الوزارة.
- تعزيز التّصدير الثقافيّ يمكن دعم الفعاليات الثّقافية مع اعتبار التّصدير إلى الخارج إطار التّعاون الدّوليّ لبناء فضاءات خارجيّة تساهم في تبادل الخبرات و الأفكار سعيا لتعزيز ثقافتنا على أن تسند إدارتها على أساس الكفاءة لا على أساس الولاء.
- الاستدامة الاستدامة يجب أن تكون توضع سياسات الدّعم الثقافيّ على المدى الطّويل لتحقيق الأثر المستدام على المجتمع الثقافيّ. التّقييم و المتابعة يجب أن يتمّ قياس تأثير السّياسات الثقافيّة المعتمدة لمراقبة الأداء الثّقافيّ لتحسينه في كنف الشّفافيّة وفي إطار التّشريعات التي وضعت للغرض.
التّغيير الحقيقيّ
قد يحتاج إلى وقت و جهد، لكنّ العمل المستمرّ والجماعيّ لتحسين النظم والسّياسات الرّشيدة ستساهم في تعزيز العدالة والنّزاهة والاستقرار الاجتماعيّ. يجب أن يكون هناك التزام حقيقيّ و شامل من قبل المجتمع بأكمله لتحقيق التّغيير الإيجابيّ وبناء مجتمع يولي أهميّة للثّقافة يسند الدّعم فيه لمستحقّيه